انتخابات أمريكا 2024- غزة، الولايات المتأرجحة، ومستقبل الرئاسة

في تحليل سابق قمت بنشره في الحادي والعشرين من شهر سبتمبر/أيلول الماضي، تحت عنوان "كامالا هاريس رئيسة لأميركا"، أشرت إلى بعض الملاحظات الهامة حول النموذج التنبؤي الذي وضعه البروفيسور المتميز آلان ليكمان، والذي يعتمد على ثلاثة عشر مفتاحًا. تضمنت رؤيتي النقدية التي قدمتها في ذلك الوقت، إبراز تجاهل النموذج لتأثير الحملات الانتخابية الذكية والموجهة بدقة عبر وسائل الإعلام الرقمية الحديثة، مثل شبكات التواصل الاجتماعي المتنوعة، بالإضافة إلى تقدير مدى قدرة تلك الحملات على الوصول إلى شريحة الناخبين المستقلين، خاصة في الولايات المتأرجحة التي تلعب دورًا حاسمًا في تحديد نتائج الانتخابات.
ورغم أن البروفيسور ليكمان قد توقع بشكل قاطع فوز كامالا هاريس بمنصب الرئاسة، إلا أن هذا التحليل يهدف إلى إثارة نقاش حول مجموعة من القضايا الهامة التي يجب أخذها بعين الاعتبار قبل إصدار حكم نهائي بشأن فوز أي طرف على آخر في الخامس من شهر نوفمبر/تشرين الثاني. يمكن تلخيص هذه القضايا في مجموعة من الأسئلة الجوهرية:
ما هي المتغيرات الحقيقية التي تشهدها الولايات المتأرجحة، والتي تعتبر بمثابة أوراق رابحة حاسمة لتحديد نتيجة السباق الرئاسي، وإلى أي مدى تميل هذه المتغيرات لصالح أي من المرشحين؟
اقرأ أيضا
list of 2 itemsترامب يوقع أمرا تنفيذيا لإلغاء وزارة التعليم
"مبعوث يسوع".. هل سيُدخل ترامب أميركا عصر الهيمنة المسيحية؟
ما هو النطاق الفعلي لحجم تأثير المال السياسي الذي يتم توجيهه عبر وسائل الإعلام غير التقليدية في تعزيز فرص المرشحين؟ وما هي طبيعة التأثير الذي تمارسه الحرب الدائرة في غزة على مسار الانتخابات الأميركية؟ وإلى أي مدى استطاع المرشحان الوصول إلى شريحة أوسع من الناخبين من خلال ما يسمى بالخطاب الختامي المؤثر؟ وما هي طبيعة الأجندة الملحّة والمتوقعة للرئيس القادم للولايات المتحدة، بغض النظر عمن سيكون الفائز في نهاية المطاف؟
الولايات المتأرجحة
يبلغ عدد الولايات المتأرجحة سبع ولايات رئيسية، وهي: ولاية أريزونا، وولاية جورجيا، وولاية ميشيغان، وولاية نيفادا، وولاية كارولينا الشمالية، وولاية بنسلفانيا، بالإضافة إلى ولاية ويسكونسن.
إلى جانب هذه الولايات المذكورة، هناك ولاية أخرى يعتبرها العديد من المراقبين السياسيين ذات إمكانية كبيرة للتحول إلى ولاية متأرجحة في الانتخابات الحالية، وهي ولاية تكساس. يعزى هذا التحول المحتمل إلى التغيرات الديموغرافية الكبيرة التي شهدتها الولاية على مر السنوات الماضية. وبالتالي، قد تصبح تكساس ضمن المناطق التي يمكن أن تتأرجح بين الحزبين، على عكس الاعتقاد السائد بأنها معقل تقليدي للجمهوريين.
وبتعريف أكثر دقة، فإن الولاية المتأرجحة هي تلك الولاية التي يتمتع فيها كل من المرشح الديمقراطي والمرشح الجمهوري بفرصة حقيقية ومتساوية للفوز بأصواتها.
ما يؤكد الدور المحوري الذي تلعبه الولايات المتأرجحة في تحديد نتيجة السباق الرئاسي القادم، هو أن المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، والمرشح الجمهوري دونالد ترامب قاما بأكثر من مئتي زيارة إلى هذه الولايات السبع، وذلك خلال الفترة الممتدة من الحادي والعشرين من شهر يوليو/ تموز – وهو التاريخ الذي انسحب فيه جو بايدن من السباق – وحتى مساء الحادي والثلاثين من شهر أكتوبر/ تشرين الأول لعام 2024. وقد أنفق المرشحان ما يقارب المليار دولار على الإعلانات الموجهة للناخبين عبر وسائل الإعلام المختلفة، وخاصة وسائل الإعلام الرقمية الحديثة.
ربما يعكس هذا الإنفاق المالي الهائل أمرًا مقلقًا يتعلق بقدرة الديمقراطية الأميركية على تمثيل الناخبين الحقيقيين، وليس فقط أصحاب الثروات والمصالح الخاصة. وفي هذا السياق، فإن المالك السابق لمنصة تويتر، والتي تعرف الآن باسم منصة (إكس)، قد قام بدفع مبلغ 75 مليون دولار لدعم حملة ترامب الانتخابية.
ويتضح جليًا تأثير هذا الصرف المالي الكبير الذي تم في المناطق المتأرجحة من خلال التقدم الملحوظ الذي حققته كامالا هاريس. فوفقًا لأحدث استطلاعات الرأي التي أجرتها مؤسسة ماريست المرموقة بين يومي السابع والعشرين والثلاثين من شهر أكتوبر/ تشرين الأول، فقد أظهرت النتائج أن هاريس تتقدم على ترامب في ولايات ميشيغان، وولاية ويسكونسن، وولاية بنسلفانيا.
لكي يتمكن دونالد ترامب من الفوز في الانتخابات، يحتاج إلى كسب واحدة على الأقل من هذه الولايات الثلاث لصالحه، وخاصةً وسط شريحة الناخبين المستقلين. وإذا نجحت المرشحة الديمقراطية في الاحتفاظ بهذه الولايات الثلاث التي فاز بها جو بايدن في عام 2020، بالإضافة إلى الحصول على ولاية نبراسكا التي تمثل ثلاثة أصوات ضمن الكلية الانتخابية، فإنها ستتمكن من الحصول على 270 صوتًا من المجمع الانتخابي، وهو العدد المطلوب للفوز بالانتخابات، هذا بالإضافة إلى فوزها المتوقع بالولايات الزرقاء التي تعتبر معاقل تقليدية للديمقراطيين.
وعلى الجانب الآخر من تأثير الصرف المالي في الولايات المتأرجحة، يظهر تقدم لدونالد ترامب بسبع نقاط في ولاية جورجيا، والتي نجح جو بايدن في الفوز بها في عام 2020. يعزى هذا التقدم إلى الدعم المستمر الذي يحصل عليه ترامب من المصوتين البيض الذين لم يحصلوا على تعليم جامعي. وتعتبر هذه النقطة من أبرز نقاط الضعف لدى كامالا هاريس، حيث تعاني من عدم القدرة على توسيع قاعدة دعمها وسط الرجال البيض، بالإضافة إلى بعض الاستطلاعات التي تظهر ميل الناخبين الرجال من ذوي البشرة السمراء لدعم ترامب.
وفي السياق نفسه، يحقق ترامب تقدمًا نسبيًا في ولاية أريزونا، وخاصةً وسط الكتلة اللاتينية التي تمثل ثلث إجمالي الناخبين، وذلك بسبب قضايا الهجرة والاقتصاد التي تعتبر ضمن نقاط الضعف لدى كامالا هاريس.
تتوقف حظوظ هاريس في الفوز بهذه الولاية، التي تعتبر أقرب إلى ترامب، على ضمان نسبة تصويت عالية في منطقة بيما (Pima County) ذات الثقل الديمقراطي، والتي كانت سببًا رئيسيًا في فوز جو بايدن في عام 2020، حيث حصل على نسبة 60% من أصوات الناخبين، وهو الأمر الذي مكنه من معالجة العجز التصويتي الذي واجهه في المناطق الأخرى.
وبشكل عام، يمكن القول إن كامالا هاريس تتفوق على ترامب في الولايات المتأرجحة بنسب ضئيلة، ولكنها مؤثرة. وعلى الرغم من هذا التقدم النسبي للمرشحة الديمقراطية، فإنها تعاني من تداعيات الحرب في غزة وسط الناخبين العرب والمسلمين في ولاية ميشيغان. وربما يكون ترامب قد استفاد من هذه النقطة، وحوّل هذه الولاية المهمة لصالحه، الأمر الذي قد يشكل عقبة في طريق هاريس إلى البيت الأبيض، وذلك بالنظر إلى أن معظم ولايات الغرب الأوسط الأميركي لها نمط تصويتي متشابه، بمعنى أن خسارة ميشيغان قد تعني خسارة كل هذا الحزام التصويتي.
غزة والسباق الرئاسي
من منظور تاريخي، ترتبط القضايا التي تتحكم في الانتخابات الأميركية بالشأن الداخلي أكثر من العامل الخارجي. ولكن الانتخابات الرئاسية لعام 2024 حملت متغيرًا جديدًا، يتمثل في الموقف العام من سياسة إدارة جو بايدن الداعمة للحرب الإسرائيلية على غزة، والتي أصبحت إحدى القضايا المحورية في الحملات الانتخابية.
ووفقًا لمؤشرات عديدة، قد تحدد تداعيات هذه الحرب نتيجة الانتخابات الرئاسية الحالية. وبغض النظر عن أي قراءة قُدمت لتفسير الأسباب التي دفعت جو بايدن للانسحاب من الترشح لولاية ثانية، من قبيل كبر سنه، وبالتالي عدم قدرته على إدارة الدولة لأربع سنوات قادمة، يبقى أمر تدني شعبيته بسبب دعمه المطلق لآلة الحرب الإسرائيلية التي حصدت أرواح عشرات الآلاف من الأبرياء في غزة، أحد أهم العوامل التي وضعت نهاية دراماتيكية لمستقبله السياسي، الذي لم يتخيل أكثر المتشائمين أنه سينتهي بهذه الطريقة المأساوية.
ولم يقتصر الأمر على حد انسحاب بايدن، بل تجاوزه لأبعد من ذلك. ويظهر هذا جليًا في اختيار تيم والز كنائب للمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس بدلًا من جاك شابيرو حاكم ولاية بنسلفانيا، والتي تعد إحدى أهم الجوائز الانتخابية التي يشتد حولها التنافس الكبير بين دونالد ترامب وهاريس.
وقد كانت حظوظ جاك شابيرو في أن يترشح مع كامالا هاريس أكبر من أي مرشح آخر، ولكن مرة أخرى كانت قضية غزة حاضرة بقوة، حيث تم استبعاده بسبب موقفه الداعم للعدوان على قطاع غزة، بالإضافة إلى وجود مقال رأي كتبه أثناء وجوده في الكلية تم الكشف عنه مؤخرًا، والذي عرف فيه نفسه بأنه متطوع سابق في جيش الدفاع الإسرائيلي، وذكر في ذلك المقال أن الفلسطينيين "ذوو عقلية قتالية" للغاية، بحيث لا يسعون إلى تحقيق السلام مع إسرائيل، وبالتالي تجب محاربتهم.
وقد لعب الجناح التقدمي داخل الحزب الديمقراطي، المتعاطف مع ضحايا الانتهاكات التي ارتكبت في غزة، دورًا محوريًا في استبعاد شابيرو واختيار تيم والز كنائب لهاريس. وكانت المساومة قائمة على عدم العمل مع كامالا هاريس إذا أصرت على اختيار حاكم ولاية بنسلفانيا كنائب لها.
لا شك أن موضوع الحرب على غزة سيلقي بظلاله من جديد على الانتخابات، وذلك بالنظر إلى أهمية الناخبين المسلمين في أميركا، والذين يقدر عددهم بنحو 4.5 ملايين ناخب، مع الأخذ في الاعتبار أن شريحة مقدرة منهم تتواجد في الولايات المتأرجحة، الأمر الذي يعني قدرتهم الحاسمة على تحديد نتائج السباق الرئاسي، والمستويات الانتخابية الأخرى.
وبقراءة فاحصة لبعض نتائج الانتخابات الرئاسية في عام 2020، فإن حوالي 65 في المائة من الناخبين المسلمين في هذه الولايات قاموا بالتصويت لصالح جو بايدن، وقد شكل ذلك الدعم أحد الأسباب الرئيسية لفوزه بالرئاسة. ويتضح ذلك بالوقوف على الهامش الضئيل الذي مكنه من الفوز، ففي ولاية جورجيا فاز بفارق 12 ألف صوت فقط، وهي الولاية التي صوت فيها أكثر من 61 ألف مسلم، وفي بنسلفانيا بفارق 81 ألف صوت، حيث صوت فيها 125 ألف مسلم، وفي ولاية ميشيغان فاز بفارق 154 ألف صوت فقط، بينما فاز ترامب بذات الولاية في العام 2016 بأقل من 11 ألف صوت.
ووفقًا لمصلحة الإحصاء الأميركية في العام 2020، فإن عدد المسلمين الذين يتواجدون في ميشيغان يبلغ عددهم 250 ألف فرد، الأمر الذي يعني وجود دور حاسم لهم في هذا السباق الانتخابي، هذا بالإضافة إلى توجهات بعض المسلمين الذين يسمون أنفسهم بغير الملتزمين للتصويت لخيار حزب الخضر برئاسة جيل إستاين، مما يضعف حظوظ المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، ولربما يستفيد من ذلك دونالد ترامب. ويتوقف ضمان أو خسارة أصوات المسلمين وغيرهم من الناخبين الآخرين على طبيعة الخطاب الختامي الذي ألقاه كلا المرشحين في هذا اليوم الحاسم من عمر السباق نحو البيت الأبيض.
الخطاب النهائي للمرشحين ودلالاته
اختارت كامالا هاريس، أمام ما يقرب من 75 ألفًا من الحضور، أن تلقي خطابها من المنطقة التي قام دونالد ترامب بتحريض أنصاره على مهاجمة مبنى الكونغرس الأميركي فيها في السادس من يناير/كانون الثاني 2021، عندما رفض الاعتراف بنتيجة الانتخابات وسعى لعرقلة اعتمادها. وبدلًا من خطاب الكراهية والعنف الذي يتبناه خصمها السياسي، عمدت هاريس إلى تقديم خطاب مختلف يركز على مخاطبة المستقبل، دون إغفال تذكير الناخبين الأميركيين بحجم التهديد الذي يشكله المرشح الجمهوري على الديمقراطية الأميركية.
ودعت هاريس إلى الوحدة من خلال التذكير بأن ما يجمع الأميركيين أكثر مما يفرقهم في معركة بناء المستقبل، الذي يتطلب الاستماع إلى جميع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الجغرافية أو الدينية أو السياسية أو هويتهم البيولوجية، مع تعهدها بدعم الطبقة الوسطى التي تعتبرها عماد الاقتصاد الأميركي.
في المقابل، ومن داخل حديقة ماديسون سكوير بنيويورك، والتي تبعد فقط 200 ميل عن المكان الذي قدمت منه هاريس خطابها الختامي للناخبين، اختار ترامب تقديم خطابه النهائي، والذي وصف فيه منافسته الديمقراطية بأنها "حطام لقطار قام بتدمير كل شيء لقيه في طريقه".
وأضاف حلفاؤه على المسرح أن بورتوريكو "جزيرة عائمة من القمامة"، مع وصف كامالا هاريس بالكثير من الألفاظ البذيئة. من جانبه، تعهد ترامب بتنفيذ أكبر عملية ترحيل في تاريخ الولايات المتحدة، وفرض تعريفات جمركية واسعة النطاق لرفع حجم الإيرادات وتعزيز الصناعة الأميركية.
وقد سيطر على خطاب ترامب التذكير بالتهديد الوجودي الذي يمثله المهاجرون للاقتصاد والثقافة الأميركية، بالإضافة إلى العمل على إثارة الفروقات الثقافية بين مختلف المكونات.
ويتضح من حجة الطرفين في خطابيهما الختاميين أن استراتيجية المرشحة الديمقراطية كانت قائمة على الوصول إلى شريحة ضيقة من الناخبين المترددين، ومن بينهم العديد من الجمهوريين المعتدلين وبعض المستقلين، بمعنى آخر توسيع قاعدة كتلتها التصويتية. بينما ركز فريق المرشح الجمهوري بشكل أكبر على تنشيط قاعدته الحزبية، والوصول إلى بعض الناخبين الذين يشعرون بالإحباط من الاتجاه الذي تسلكه البلاد، ويبحثون عن التغيير الجذري.
والسؤال الذي لا يمكن الإجابة عنه هنا هو: هل نجح كل طرف في تحقيق مبتغاه أم لا من خلال الخطاب الختامي؟ هذا ما ستحدده نتائج الانتخابات. ولكن بغض النظر عن هوية الفائز، سيواجه الرئيس القادم تحديات مصيرية يجب التعامل معها بحكمة.
أجندة الرئيس القادم
في أمسية الثلاثاء الموافق 24 سبتمبر/ أيلول الماضي، استضاف المجلس الأطلسي في منتدى المستقبل العالمي وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس، والتي تعمل حاليًا كأستاذة للعلوم السياسية بجامعة ستانفورد، وتشغل أيضًا منصب مدير معهد هوفر للسياسات العامة – للحديث عن أولويات أميركا على خلفية الانتخابات الرئاسية الحالية.
قالت رايس "من سيسكن البيت الأبيض في شهر يناير/ كانون الثاني من عام 2025، يحتاج إلى إدراك أن الولايات المتحدة ليس لديها خيار الآن سوى المشاركة الفعالة في العالم ومحاولة تشكيل البيئة الدولية". في إشارة منها لتحدي حقيقي يواجه الفائز، وهو هل سيترك لموسكو وبكين أمر تشكيل البيئة الدولية، أم ستقوم واشنطن بصياغة هذه البيئة من خلال العمل الوثيق مع حلفائها؟
ورغم أن النقاش مع كونداليزا رايس في تلك الأمسية قد غطى طيفًا واسعًا من الموضوعات – والتي تفاوتت بين الحرب الروسية الأوكرانية، تحركات الصين المتنامية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، مستقبل الذكاء الاصطناعي ومخاطر التلاعب بالانتخابات الرئاسية الأميركية في شهر نوفمبر/تشرين الثاني – فإنها اهتمت بالتأكيد على أن أهم أجندة للرئيس الأميركي القادم، هو أن تظل أميركا متصلة بشكل وثيق بالعالم.
ومن وجهة نظر تحليلية دقيقة، فإن كونداليزا رايس تعزز وجهة نظر المدرسة الواقعية الهجومية في العلاقات الدولية، والتي ترتكز في سياق الحالة الأميركية على اعتبار أن الأمن القومي لواشنطن يبدأ من أي نقطة تتواجد فيها مصالح حيوية للولايات المتحدة، بمعنى آخر عدم السماح لأي قوة بالظهور الفاعل الذي يهدد نفوذها وسيطرتها على العالم.
الخلاصة
من واقع الأحداث الراهنة، يصعب التكهن بنتائج انتخابات الخامس من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني لعام 2024، ولكن يمكن القول بثقة أن مخرجاتها ستؤثر بشكل كبير على مجريات السياسة الخارجية والداخلية للولايات المتحدة الأميركية.
فعلى الصعيد الخارجي، يبدو أن فوز كامالا هاريس سيفتح الباب لمزيد من تفاعل واشنطن مع العالم، في إطار الطرح الذي تفضلت به كونداليزا رايس، وبالتالي ستشهد منطقة الشرق الأوسط نوعًا من الاهتمام الأميركي والتفاعل النسبي المعقول مع قضاياها، وإن كانت الأولوية الاستراتيجية لأميركا ستكون في منطقة آسيا، من أجل محاصرة النفوذ الصيني المتنامي.
وفي المقابل، فإن فوز دونالد ترامب سيعزز من العزلة الأميركية في إطار تواصلها مع بقية العالم، مع وجود استثناء ملحوظ، وهو التركيز الشديد على آسيا والصين تحديدًا. وهذا الانشغال الأميركي المتوقع عن منطقة الشرق الأوسط ربما قاد لإطلاق يد إسرائيل في تشكيل مستقبل المنطقة وتصفية القضية الفلسطينية برمتها.
وعلى الصعيد الداخلي، المحكوم بالقلق المتزايد على مستقبل الديمقراطية والخوف العميق من مجهول الانقسام المجتمعي، فإن أميركا ستستمر في التشظي الثقافي القائم على انعدام الحوار المدني البناء الذي يحترم الآخر وحقه الأصيل في الوجود. وستتعزز حالة الاصطفاف السياسي القائمة على نشر خطاب الكراهية والكراهية المتبادلة، مع عدم إغفال أمر أكثر خطورة على الاستقرار السياسي والأمني، وهو استمرار التشكيك في قواعد اللعبة الديمقراطية، وعدم الاعتراف بالمؤسسات الفدرالية التي تعتبر رمزًا شامخًا للاتحاد الذي تأسس قبل قرنين من الزمان، لتكون المحصلة النهائية أحد أمرين لا ثالث لهما:
- نجاح الرئيس القادم في تجاوز حالة التشظي الداخلي العميق، ودعم الاستقرار السياسي والمجتمعي الراسخ، والذي سينعكس إيجابًا على حظوظ أميركا في لعب دورها الخارجي الفعال والمحافظة على وضعيتها كقوة عظمى مهيمنة.
- فشل الرئيس الجديد في توحيد المجتمع وقيادته بحكمة، وبالتالي استمرار الولايات المتحدة في الانحدار في هذا المستنقع الخطير، والذي سيقضي على كل ما بنته واشنطن منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
وتبدو حظوظ هذا السيناريو الأخير – سيناريو الفشل – أكبر، وذلك بسبب أن المرشحين الحاليين لا يمتلكان الكاريزما القيادية اللازمة لإعادة بناء الوحدة الوطنية من جديد. فكامالا هاريس لا تستطيع أن تتواصل بفاعلية مع شريحة كبيرة من أنصار ترامب الذين يشكلون نصف المجتمع الأميركي، وفي المقابل فإن دونالد ترامب غير مستعد للاعتراف بالنصف الآخر من المجتمع الذي يوجد خارج دائرته الضيقة.